العالم ينزلق إلى أزمتين اقتصاديتين عامي 1873 و2008 ... (2
بقلم - محمد الفارس
أشرنا في الحلقة السابقة إلى ثلاثة أوجه للتشابه بين الأزمة الاقتصادية عام 1873 والأزمة الاقتصادية الحالية، فكلتا الأزمتين بدأت في شهر سبتمبر/ ايلول، وكلتاهما أيضاً بدأتا بانهيار بنك، وفي حين كانت انفلونز الخيول أحد أسباب الكساد الذي تبع أزمة ،1873 نصادف في هذه الأزمة انتشار انفلونزا الخنازير، وليس معروفاً حتى الآن إن كان انتشارها أتى صدفة، أو كما نرى في كثير من المقابلات التلفزيونية مع أطباء ومسؤولين صحيين عالميين من أن هذه الانفلونزا ليست طبيعية وإنما مصنعة في المختبرات لصالح جهات معينة ومؤسسات أدوية عالمية، تريد تعويض خسائرها من الأزمة الحالية .
عندما بدأت بوادر الأزمة الحالية في سبتمبر ،2008 ثم زاد تفاعلها وبدأت آثارها تظهر تباعاً، شبهها كثير من المؤرخين والاقتصاديين بالأزمة الاقتصادية عام ،1929 ولكن هناك مؤرخين أكثر دقة في التشبيه، فشبهوها بأزمة عام ،1873 ليس فقط في كثير من أوجه التشابه والأحداث التي ارتبطت بالأزمتين، وإنما أيضاً بمسببات الأزمتين، وإذا كنا قرأنا في الحلقة السابقة عن مقدمات أزمة عام ،1873 فسنتناول في هذه الحلقة أسباب الأزمتين المتشابهتين في كثير من جوانبهما وخاصة في أسبابهما، وسنبدأ بأسباب أزمة 1873 ثم نقارنها بأسباب الأزمة الحالية .
على الرغم من أن الأزمة الاقتصادية عام 1873 بدأت انطلاقتها من أمريكا، إلا أن أسباب تلك الأزمة بدأت في أوروبا التي كانت تتمتع باقتصاد قوي في تلك الفترة، وتتفوق على أمريكا في أمور كثيرة منها الأساس الاقتصادي المتين، والتاريخ الاقتصادي المعروف، والسلع والمنتجات المشهورة، فالاقتصاد الأمريكي في تلك الفترة كان في طور الصعود، وكانت الولايات المتحدة في تلك الفترة تمثل الأمل الجديد والكبير لتحقيق الثروة بإمكاناتها الهائلة والتسهيلات السهلة المقدمة للمستثمرين الراغبين بالهجرة إليها، ولو تتبعنا مسار تلك الأزمة فسنرى من خلال تسلسل الأحداث أن الأسباب بدأت في بعض دول أوروبا، ولكنها انطلقت من أمريكا الى كل دول أوروبا، ولو عدنا إلى بدايات أزمة عام ،1873 فسنلاحظ أن بدايتها كما تشير الدراسات التاريخية كانت في الامبراطورية النمساوية المجرية التي تكونت عام 1867 في الدول التي وحدّتها بروسيا داخل الامبراطورية الألمانية، وبدأت أيضاً في فرنسا التي قدم أباطرتها دعمهم لمؤسسات الإقراض حديثة الظهور والتي أصدرت رهونات لمباني الإسكان، وبصفة خاصة في العواصم الأوروبية، فيينا وبرلين وباريس، وكانت تلك الرهونات سهلة، حيث أصبحت في متناول الجميع، وهذا بدوره أدى لحدوث ازدهار في البناء، وسرعان ما بدأت أسعار الأراضي في الارتفاع بشكل جنوني، وأصبح المقترضون شرهين في أخذ المزيد من القروض مستخدمين المباني غير مكتملة البناء كضمان لدين جديد، وحدثت هذه الفورة بشكل خاص خلال فترة ما يسمى ب”فترة المؤسسين” التي أشرنا إليها في الحلقة السابقة، ورغم هذا الازدهار الشكلي، إلا أن الأسس الاقتصادية لم تكن تمثل حقيقة ذلك الاقتصاد المزدهر، فقد واجه مصدرو القمح من روسيا وأوروبا الوسطى منافسين دوليين جدداً كانت أسعارهم أقل بكثير مما يعرضه هؤلاء المصدرون، هؤلاء المنافسون كانوا فلاحي الغرب الأمريكي الذين استخدموا كل وسائل النقل المتوفرة في ذلك الوقت، وأهمها السفن التجارية لتصدير حمولاتهم من القمح الى خارج أمريكا، وتحولت بريطانيا منذ عام 1871 الى هذا المصدر الرخيص للقمح، ومما زاد من ازدهار الصادرات الأمريكية لأوروبا أن أسعار الكروسين ارتفعت هناك بشكل كبير مما ألحق ضرراً بالغاً بالصناعة، وخاصة الأطعمة المصنعة، وبدأ الركود الاقتصادي يضرب أراضي أوروبا بسبب ارتفاع الأسعار، وبدأ الأوروبيون يعدّون أنفسهم لمواجهة ما أطلقوا عليه اسم “الغزو التجاري الأمريكي” وكان ذلك إيذاناً بوصول قوة عظمى صناعية جديدة، حيث إن أسعار سلع هذه القوة الجديدة بدأت تشكل تهديداً واضحاً للتجارة الأوروبية وطريقة الحياة في أوروبا، ونتيجة لذلك بدأت الكثير من البنوك الأوروبية المتأثرة تغلق أبوابها، وتأثرت كثير من البنوك البريطانية بهذا الوضع وأدى الركود الى ظهور أزمة في الرهون العقارية، وبلغت تكلفة اقتراض أموال من بنوك أخرى، وهو ما يسمى بسعر الإقراض بين البنوك، أسعاراً خيالية، وأصابت هذه الأزمة البنكية الولايات المتحدة في خريف عام 1873 حيث انهارت شركات السكك الحديدية، وكانت تلك قد توصلت الى أدوات مالية معقدة، وكان عائدها ثابتاً، وقد بيعت صكوكها بشكل جيد في البداية، ولكنها تساقطت بعد عام 1871 مع بدء المستثمرين في الشعور بالشك تجاه قيمتها، وتراجعت الأسعار، وقامت العديد من شركات السكك الحديدية بالحصول على قروض بنكية قصيرة الأجل لكي تستمر في مدّ قضبان السكك الحديدية، ولكن مع قفزات أسعار الإقراض، ووصولها لمعدلات غير مسبوقة عبر الأطلنطي عام ،1873 أصبحت شركات السكك الحديدية في مأزق حقيقي، وعندما أعلن ممول شركات السكك الحديدية وهو بنك جاي كوك (فيلادلفيا) عجزه عن دفع ديونه، حدث الانهيار لبورصة نيويورك في شهر سبتمبر/ ايلول ،1873 الأمر الذي أدى الى إغلاق المئات من البنوك خلال الثلاثة أعوام التالية في أمريكا واستمر هذا الكساد لأكثر من أربعة أعوام في أمريكا، ولأكثر من ستة أعوام في أوروبا .
والتأثيرات طويلة الأجل للهلع الذي حدث عام 1873 كانت واسعة الانتشار، فبالنسبة للشركات الصناعية الكبرى في الولايات المتحدة، فإن أولئك الذين في حوزتهم عقود مضمونة، ولديهم القدرة على عقد صفقات شراء ديون شركات السكك الحديدية، كانت تلك السنوات بالنسبة لهم ذهبية، فعلى سبيل المثال، فإن اندرو كارينجي وسايروس ماكورفيك وجون روكفلر كانت لديهم احتياطيات رأس مال كافية لتمويل نموهم الذي لم يتوقف أما بالنسبة للشركات الصناعية الصغيرة والتي اعتمدت على الطلب الموسمي ورأس المال الخارجي، فكان الموقف بالغ السوء، فمع نفاد احتياطياتها من رأس المال، كان ذلك إيذاناً بتوقف نشاطهم الصناعي، وسرعان ما انقض كارنيجي وروكفلر واشتروا أصول منافسيهم بأسعار بخسة، وهكذا بدأ عصر الاحتكار الصناعي في الولايات المتحدة، ومع ازدياد الهلع، زادت معاناة الأمريكيين العاديين بشكل مخيف، ويروي أحد كبار صناع السيجار الفاخر في أمريكا ويدعى صموئيل جومبرز وكان شاباً صغيراً عام ،1873 أنه مع ازدياد تبعات هذا الهلع الاقتصادي، انهارت أعمدة النظام الاقتصادي خلال الفترة ما بين 1873 و،1877 حيث قامت العديد من المصانع الصغيرة والورش بإغلاق أبوابها، وسرّحت عشرات الآلاف من العاملين، ومعظمهم من الجنود السابقين خلال الحرب الأهلية التي وقعت في أمريكا خلال الفترة من 1861 الى ،1865 ومصطلح عامل مسرّح أو متشرد كلاهما يشير الى حال الجنود السابقين الذين ساءت أوضاعهم، وسرعان ما بدأ في توزيع الإغاثة في المدن الكبرى ذات معدلات البطالة التي تزيد على 25% (أي 100 ألف عامل فما فوق) وسنشرح المزيد من آثار تلك الأزمة على أمريكا وأوروبا فيما بعد .
مقارنة بين الأسباب التي أدت لأزمتي 1873 و2008
هناك عوامل مشتركة كثيرة بين مسببات أزمة 1873 وأزمة ،2008 أولها أن الاقتصاد المالي وليس العيني هو المتسبب في حدوث الأزمتين، وهناك تشابه كبير في تدرج الأسباب، فالملاحظ أنه حدث ازدهار اقتصادي، ووفرة في السيولة في أوروبا وأمريكا خلال الستينات من القرن التاسع عشر على الرغم من أن أمريكا كانت تعاني من ويلات الحرب الأهلية في النصف الأول من الستينات، هذا الازدهار والسيولة النقدية أدى إلى الرغبة في ازدياد الثروة سواء عند الحكومات أو الافراد، وذلك من خلال استثمار تلك السيولة، وكما رأينا، فإن الوضع كان مشابهاً في الأزمة الحالية في أمريكا وأوروبا والدول الغنية في شرق آسيا إضافة الى الدول النفطية ومنها دول الخليج خلال الفترة التي سبقت أزمة عام ،2008 فقد اندفع الاوروبيون والامريكيون في سنوات الطفرة التي سبقت عام 1873 في الاستثمار بالسكك الحديد والعقار، ورأينا من خلال الأحداث المذكورة كيف ارتفعت أسعار العقارات وتم رهن الكثير من المباني حتى غير المكتمل البناء منها لأخذ المزيد من القروض لعقارات جديدة ولم تكن هناك ضوابط لذلك الاندفاع في الاستثمار العقاري، ويبدو واضحاً وجود تراخٍ في قيود الاقراض كما حدث قبل الأزمة الحالية، واصبح طموح متوسطي الدخل ليس امتلاك منزل فقط، وانما تحقيق ثروة من خلال الاستفادة من الوضع المزدهر الذي يمنح تسهيلات ميسرة، ويسمح أيضاً بالبيع أثناء الرهن، وهذا بدوره أدى إلى الثراء بالدين ثم البيع بعد فترة وجيزة بعد ارتفاع أسعار العقار .
وأدت هذه الفوضى، إضافة الى إغراق السوق الاوروبية بالسلع الامريكية الرخيصة في اوائل السبعينات من القرن التاسع عشر إلى حدوث الأزمة ودخول أوروبا في ركود وانتقال الأزمة إلى امريكا التي انهارت مؤسساتها المالية بدءاً بمصرف فيلادلفيا ثم انتقال هذه الأزمة بكل أدواتها وآثارها إلى اوروبا بأكملها، وحتى نستطيع أن نرى أوجه المقارنة بين الأزمتين، سنقرأ أسباب الأزمة الحالية التي بدأت في سبتمبر/ ايلول 2008 .
أسباب الأزمة الاقتصادية الحالية
هناك أربعة أسباب للأزمة الحالية، وهي تقريباً مشابهة لمسببات أزمة 1873 هذه الأسباب هي:
توفر السيولة، تراخي قيود الاقراض، الاقراض المجنون، ضعف الرقابة المالية .أ- توفر السيولة:
عاشت الولايات المتحدة السنوات الأخيرة من عهد جورج بوش في ازدهار اقتصادي، كان أحد أهم اسبابه توفر السيولة المالية، حيث تدفقت الاستثمارات الآسيوية، وخاصة الصينية منها الناتجة من الفوائض في الموازين التجارية التي فضلت الصين استثمارها في الولايات المتحدة لتحريك الاقتصاد الامريكي، والحفاظ على الصادرات الصينية اليه بالاضافة إلى تجنيب الصين التضخم الذي ستواجهه في حال انفاق هذه الفوائض في الداخل، مما سيقلل بدوره من تنافسية منتجاتها، اضافة الى الفوائض النفطية التي تراكمت لدى الدول الخليجية بشكل خاص نتيجة ارتفاع اسعار النفط منذ عام ،2003 واتجهت الى الاستثمار في أمريكا، هذه الاستثمارات سواء الآسيوية أو الخليجية بدأت تتجه من السندات الحكومية ذات العائد المنخفض والمخاطرة المعدومة تقريباً إلى استثمارات في أدوات أخرى أكثر عائداً وأكثر مخاطرة، ومن هذه الأدوات الاستثمارية، السندات المدعومة بالقروض العقارية، ففي عام 2006 وعندما كانت اسواق العقارات الامريكية في أوج ازدهارها، كان المستثمرون الأجانب يملكون حوالي ثلث الرهونات العقارية في الولايات المتحدة، ومن أسباب توفر السيولة أيضاً تخفيض المصرف الفيدرالي الامريكي لكلفة الاقتراض إلى حوالي 1% بعد أحداث 11 ستمبر 2001 تجنباً لتراجع النمو الاقتصادي . وهذا بدوره شجع المواطنين الامريكيين على الاستثمار بالعقار كما سنرى لاحقاً .
ب- تراخي قيود الاقراض:
في السابق، كان الامريكي الذي يرغب بالاقتراض لشراء عقار، يتعامل مع مالك العقار، ومع مؤسسة تمويل القرض العقاري، ويقوم بتسديد أقساطه العقارية الشهرية من حسابه المصرفي وكانت هناك مجموعة من الضوابط لعملية الاقراض، ومن لا يستطيع الالتزام بها، إما ان يبحث عن قرض تقدمه بعض مؤسسات الاقراض المدعومة من الحكومة الامريكية مثل مؤسستي فاتي مي ومرندي ماك، أو من أن يستأجر سكناً، أما القروض التجارية، فكانت تتطلب التدقيق في مستوى دخل المقترض للتأكد من قدرته على تسديد قرضه، والزامه بدفع مقدم يتجاوز 20% من قيمة القرض، ويطلب منه كذلك تأمين هذا القرض، وكان سعر الفائدة على القرض ثابتاً، أي أن المقترض على دراية بحجم الاقساط التي سيقوم بتسديدها، غير ان السنوات التي عرفت بفترة تحرير القطاع المالي، وظهور ما سمي “بالابتكارات المالية” شهدت تغييرات جذرية في صيغة العقود العقارية، وهذه التغييرات هي التي سببت الفقاعة العقارية التي أدت إلى الأزمة الحالية، ومن أهمها:
. 2- صياغة العقود بصورة يكون فيها سعر الفائدة متغيراً، فيبدأ منخفضاً لإغراء المقترض بالوقوع في مصيدة الاقتراض، ثم يرتفع سعر الفائدة فجأة بعد سنتين أو أكثر مواكبة لأسعار الفائدة في السوق، فيفاجأ المقترض بزيادة كلفة العقار، وقد يجد نفسه عاجزاً عن التسديد، وقد يترك بيته كذلك .
1- عدم التدقيق في مداخيل المقترضين والاكتفاء بأقوالهم، وتقليل الدفعة الأولى إلى ما بين 5% و10% من قيمة العقار، وتجزئة القرض لتقليل تكاليف التأمين الفعلية 3- إن من أخطر الابتكارات التي طرأت على العقود العقارية هو أنه تم تجميع العقود العقارية المنفردة، وحولت إلى سندات استثمارية، وتم تعليبها وبيعها في اسواق المال على شكل ديون لتحقيق عمولات للوسطاء، وانتهت نسبة كبيرة من هذه السندات المدعومة بالعقارات في محافظ استثمارية للدول الآسيوية والنفطية، ومن هنا تأتي انعكاسات هذه الأزمة على الاقتصادات الخليجية، وكذلك أصبحت هذه الديون مستحقة من قبل المقترضين الأمريكيين للمستثمرين الذين يملكون هذه السندات وهم الآسيويون وأهل النفط والأوروبيون وسقطت نتيجة لذلك جميع المخاطر عن الوسطاء الذين روجوا هذه الديون مما دفعهم إلى إنتاج المزيد من هذه المشتقات وبيعها من غير التزام بشروط الاقتراض المذكورة سابقاً، ولم تكن مؤسسات تقييم هذه المشتقات مثل موديز وغيرها التي يفترض أنها تقوم بتصنيف هذه المنتجات من حيث مخاطرها وعوائدها ومتانة ملاءة المؤسسات التي أصدرتها بأحسن حال، حيث انها أصبحت أسيرة لحجم الايرادات التي تحققها من تقديم الاستشارات للمؤسسات المالية التي يفترض فيها أنها تراقب منتجاتها، وأخيراً كان هناك افراط من قبل مؤسسات التمويل العقاري في الاعتماد على نماذج جاهزة توضع فيها البيانات عن المقترض، وعن مواصفات العقار الذي سيتم شراؤه ومعلومات أخرى تحدد جدوى المقترض، وإمكانية تسديده لقرضه، ولكن دقة الاستنتاجات التي يتم الحصول عليها من هذه النماذج تعاني ثلاث اشكاليات على الاقل فيما يتعلق بالبيانات المستخدمة فيها وهي: عدم شمولية المعلومات، وعدم دقتها، وكذلك كونها بيانات تاريخية قد تتغير بتغير الظروف الأمر الذي جعل تنبوءات هذه النماذج فيها هامش كبير من الخطأ، ففي الفقاعة العقارية الأخيرة لوحظ انه في الوقت الذي كانت فيه اسعار العقارات في تراجع كبير، كانت هذه النماذج تظهر اسعار الذروة في الأسواق . هذا التراخي في قيود الاقراض أدى إلى التوسع الجنوني في أخذ القروض .
ج- التوسع في الإقراض:
هناك نوعان من الأصول المالية، أصول تمثل الملكية، وأصول تمثل المديونية، أما الاصول التي تمثل الملكية فهي أساساً ملكية الموارد العينية من أراض ومصانع وشركات، وهي تأخذ عادة شكل أسهم، وبالنسبة لهذا الشكل من الاصول المالية فهناك عادة حدود لما يمكن اصداره من أصول للملكية، صحيح انه يمكن المبالغة بإصدار أسهم بقيم مالية مبالغ فيها عن القيمة الحقيقية للأصول التي تمثلها، ولكن يظل الأمر محدوداً، لأنه يرتبط بوجود هذه الأصول العينية، أما بالنسبة للشكل الآخر للأصول المالية وهو المديونية، فيكاد لا توجد حدود على التوسع فيها، وقد بالغت المؤسسات المالية في التوسع في هذه الأصول للمديونية، وقد استقرت المبادئ السليمة للمحاسبة المالية على ربط حدود التوسع في الاقتراض بتوافر حدّ أدنى من الأصول المملوكة، فالمدين يجب ان يمتلك حداً أدنى من الثروة حتى يستدين، وأن يتوقف حجم استدانته على حجم ملكيته للأصول العينية، ولذلك حددت اتفاقية بازل للرقابة على البنوك حدود التوسع في الاقراض للبنوك بألا تتجاوز نسبة من رأس المال المملوك لهذه البنوك، فالبنك لا يستطيع ان يقرض أكثر من نسبة محددة لما يملكه من رأسمال واحتياطي، وهو ما يعرف بالرافعة المالية Leverage، ورغم ان البنوك المركزية تراقب البنوك التجارية في ضرورة احترام هذه النسب، فإن ما يعرف باسم بنوك الاستثمار في الولايات المتحدة لا تخضع لرقابة البنك المركزي، ومن هنا توسعت بعض هذه البنوك في الإقراض لأكثر من ستين ضعف حجم رؤوس أموالها كما في حالة بنك UBS، ويقال إن الوضع بالنسبة لبنك ليمان براذرز كان أكبر، وهذه الزيادة الكبيرة في الاقتراض تعني مزيداً من المخاطر إذا تعرض بعض المدينين لمشكلة في السداد كما حدث في الأزمة الحالية . ولكن لماذا تتوسع المؤسسات المالية في الإقراض والاقتراض؟ لسبب بسيط وهو الجشع، فمزيد من الاقراض والاقتراض يعني مزيداً من الأرباح، أما المخاطر الناجمة عن هذا التوسع في الاقراض فهي لا تهم مجلس إدارات معظم هذه البنوك والتي تهتم فقط بالأرباح قصيرة الأجل، حيث يتوقف عليها حجم مكافآت الإدارة، ومن هنا ظهرت أرباح مبالغ فيها، ومكافآت مالية سخية لرؤساء البنوك، والتوسع في الاقراض لم يتجاهل اعتبارات حدود الرافعة المالية لكل مؤسسة فقط، بل ان النظام المالي في الدول الصناعية اكتشف وسيلة جديدة لزيادة حجم الاقراض عن طريق اختراع جديد اسمه المشتقات المالية، وهو اختراع يمكن عن طريقه توليد موجات متتالية من الأصول المالية بناء على أصل واحد، والأزمة الحالية ولدت نتيجة ما أطلق عليه أزمة الرهون العقارية، فالعقارات في أمريكا هي اكبر مصدر للإقراض والاقتراض، فالحلم الأمريكي لكل مواطن هو ان يملك بيته، ولذلك فهو يشتري عقاره بالدين من البنك مقابل رهن هذا العقار، والأزمة بدأت فيما عرف بالرهون العقارية الأقل جودة Sabprime فماذا حدث؟ يشتري المواطن بيته بالدين مقابل رهن هذا العقار، ثم ترتفع قيمة العقار، فيحاول صاحب العقار الحصول على قرض جديد نتيجة ارتفاع سعر العقار، وذلك مقابل رهن جديد من الدرجة الثانية، ومن هنا التسمية بأنها الرهون الأقل جودة، لأنها رهونات من الدرجة الثانية، وبالتالي فإنها معرضة اكثر للمخاطر إذا انخفضت قيمة العقارات، ولكن البنوك لم تكتف بالتوسع في هذه القروض الأقل جودة، بل استخدمت “المشتقات المالية” لتوليد مصادر جديدة للتمويل، وبالتالي التوسع في الاقراض . . كيف؟ عندما يتجمع لدى البنك محفظة كبيرة من الرهونات العقارية، فإنه يلجأ الى استخدام هذه “المحفظة من الرهونات العقارية” لإصدار أوراق مالية جديدة يقترض بها من المؤسسات المالية الأخرى بضمان هذه المحفظة، وهو ما يطلق عليه التوريق Securitization، فكأن البنك لم يكتف بالاقراض الاولي بضمان هذه العقارات، بل أصدر موجة ثانية من الأصول المالية بضمان هذه الرهون العقارية، فالبنك يقدم محفظته من الرهونات العقارية كضمان للاقتراض الجديد من السوق عن طريق اصدار سندات أو أوراق مالية مضمونة بالمحفظة العقارية، وهكذا فإن العقار الواحد يعطي مالكه الحق في الاقتراض من البنك، ولكن البنك يعيد استخدام نفس العقار ضمن محفظة اكبر للاقتراض بموجبها من جديد من المؤسسات المالية الأخرى، وهذه هي المشتقات المالية، وتستمر العملية في موجة بعد موجة، بحيث يولد العقار طبقات متتابعة من الاقراض بأسماء المؤسسات المالية واحدة بعد الأخرى، وهكذا أدى تركز الاقراض في قطاع واحد “العقارات” مع زيادة المخاطر وساعدت الأدوات المالية الجديدة “المشتقات” على تفاقم هذا الخطر بزيادة احجام الإقراض موجة تلو الموجة .
د- ضعف الرقابة المالية:
السبب الأخير للأزمة المالية الحالية يعود لضعف الرقابة المالية مقارنة بما كانت عليه قبل موجة تحرير القطاع المالي، أي قبل أكثر من ربع قرن ومن أهم مظاهر التراجع في الرقابة المالية تراجع نسبة الإقراض التي تخضع لنوع أو آخر من أنواع الرقابة من حوالي 80% قبل 20 عاماً إلى أقل من 25% عام ،2006 ومن مظاهر هذا التراجع كذلك تعدد الجهات الرقابية بين اتحادية ومحلية في أمريكا، وعدم كفاءة مواردها البشرية لمتابعة التطورات الحاصلة في الأدوات الاستثمارية .
مواقع النشر (المفضلة)